سورة الأنبياء - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


ولما ذمهم باللعب وبين أنه يفعل في إهلاك الظلم وإنجاء العدل فعل الجاد بإحقاق الحق بالانتقام لأهله، وإزهاق الباطل باجتثاثه من أصله، فكان التقدير: وما ينبغي لنا أن نفعل غير ذلك من أفعال الحكمة العرية عن اللعب، فلم نخلق الناس عبثاً يعصوننا ولا يؤاخذون، عطف عليه قوله: {وما خلقنا} أي بعظمتنا التي تقتضي الجد ولا بد.
ولما كان خلق السماء واحدة يكفي في الدلالة على الحكمة فكيف بأكثر منها! وحّد فقال: {السماء} أي على علوها وإحكامها {والأرض} على عظمها واتساعها {وما بينهما} مما دبرناه لتمام المنافع من أصناف البدائع وغرائب الصنائع {لاعبين} غير مريدين بذلك تحقيق الحقائق وإبطال الأباطيل، بل خلقنا لكم ذلك آية عظيمة كافية في الوصول إلينا ليظهر العدل في جزاء كل بما يستحق، مشحونة بما يقوت الأجسام، ويهيج النفوس، ويشرح الصدور، ويريح الأرواح ويبعث إلى الاعتبار، كلَّ من له استبصاراً، للدلالة على حكمتنا ووجوب وحدانيتنا فاتخذتم أنتم ما زاد على الحاجة لهواً صاداً عن الخير، داعياً إلى الضير.
ولما نفى عنه اللعب، أتبعه دليله فقال: {لو أردنا} أي على عظمتنا {أن نتخذ لهواً} يكون لنا ومنسوباً في لهوه إلينا، واللهو- قال الأصفهاني: صرف الهم عن النفس بالقبيح. {لاتخذناه} أي بما لنا من العظمة {من لدنا} أي مما يليق أن ينسب إلى حضرتنا بما لنا من تمام القدرة وكمال العظمة، وباهر الجلالة والحكمة، وذلك بأن يكون محض لهو لا جد فيه أصلاً، ولا يخلطه شيء من الكدر، ولا يتوقف من يراه في تسميته لهواً، لا يكون له عنده اسم غير ذلك كما لو أن شمساً أخرى وجدت لم يتوقف أحد في تسميتها شمساً كما قال تعالى في السورة الماضية {وقد ءاتيناك من لدنا ذكراً} [طه: 99] أي فهو بحيث لا يتوقف أحد في أنه من عندنا، وأنه ذكر وموعظة كما مضى، لكنا لم نرد ذلك فلم يكن، وما اتخذتموه لهواً فإنا خلقناه لغير ذلك بدليل ما فيه من الشواغل والمنغصات والقواطع فاتخذتموه أنتم من عند أنفسكم لهواً، فكان أكثره لكم ضراً وعليكم شراً، وخص الحرالي {عند} بما ظهر، و{لدن} بما بطن، فعلى هذا يكون المراد: من حضرتنا الخاصة بنا الخفية التي لا يطلع عليها غيرنا، لأن ما للملك لا يكون مبتذلاً، وكذلك لم يذكر إلا ما يتحقق المكذبون بالبعث رؤيته فوحد السماء هنا وجمعها في غير هذا الموضع لاقتضاء الحال ذلك.
ولما كان هذا مما ينبغي أن تنزه الحضرة القدوسية عنه وعن مجرد ذكره ولو على سبيل الفرض، أشار إلى ذلك بأداة شرط أخرى فقال: {إن كنا فاعلين} أي له، ولكنه لا يليق بجنابنا فلم نفعله ولا نكون فاعلين له {بل} وإشعار لهذا المعنى بالقذف والدمغ تصويراً للحق بجعل الحق كأنه جرم صلب كالصخرة قذف بها على جرم رخو أجوف فقال: {نقذف} أي إنما شأننا أن نرمي رمياً شديداً {بالحق} الذي هو هذا الذكر الحكيم الذي أنزلناه جداً كله وثباتاً جميعه لا لهو فيه ولا باطل، ولا هو مقارب لشيء منهما، ولا تقدرون أن تتخذوا شيئاً منه لهواً اتخاذاً يطابقكم عليه منصف، فنحن نقذف به {على الباطل} الذي أحدثتموه من غير أنفسكم {فيدمغه} أي فيمحقه محق المكسور الدماغ {فإذا هو} في الحال {زاهق} أي ذاهب الروح أي هالك؛ ثم عطف على ما أفادته إذا قوله: {ولكم} أي وإذا لكم أيها المبطلون {الويل مما تصفون} أي من وصفكم لكل شيء بما تهوى أنفسكم من غير إذن منا لكم، لأنكم لا تقفون على حقائق الأمور، فإن وصفتم القرآن بشيء مما تقدم ثم قذفنا عليه بما يبين بطلانه، بان لكل عاقل أنه يجب عليكم أن تنادموا الويل بميلكم كل الميل، وإن وصفتم الله أو الدنيا أو غيرهما فكذلك إنما أنتم متعلقون بقشور وظواهر لا يرضاها إلا بعيد عن العقل محجوب عن الإدراك؛ ثم عطف أيضاً على ما لزم من ذلك القذف قوله: {وله من في السماوات} أي الأجرام العالية وهي ما تحت العرش، وجمع السماء هنا لا قتضاء تعميم الملك ذلك.
ولما كانت عقولهم لا تدرك تعدد الأراضي، وحد فقال: {والأرض} أي ومن فيها، وذلك شامل- على أن التعبير بمن لتغليب العقلاء- للسماوات والأرض، لأن الأرض في السماوات، وكل سماء في التي فوقها، والعليا في العرش وهو سبحانه ذو العرش العظيم- كما سيأتي قريباً، فدل ذلك دلالة عقلية على أنه مالك الكل وملكه.
ولما كانوا يصفون الملائكة بما لهم الويل من وصفه، خصهم بالذكر معبراً عن خصوصيتهم وقربهم بالعندية تمثيلاً بما نعرف من أصفياء الملوك عند التعبير بعند من مجرد القرب في المكانة لا في المكان فقال: {ومن عنده} أي هم له حال كونهم {لا يستكبرون عن عبادته} بنوع كبر طلباً ولا إيجاداً {ولا يستحسرون} أي ولا يطلبون أن ينقطعوا عن ذلك فأنتج ذلك قوله: {يسبحون} أي ينزهون المستحق للتنزيه بأنواع التنزيه من الأقوال والأفعال التي هي عبادة، فهي مقتضية مع نفي النقائص إثبات الكمال {الّيل والنهار} أي في جميع آنائهما دائماً. ولما لم يصرح هنا بإنكار منهم، ولا ما يستلزمه من الاستكبار، لم يؤكد لا عطف بالواو فقال: {لا يفترون} عن ذلك في وقت من الأوقات بخلاف ما في {فصلت} فإن الأمر فيها مبني على حد استكبارهم المستلزم لأنكارهم المقتضي للتأكيد، وكل هذا في حيز {إذا} أي إذا أنزلنا شيئاً من القرآن منبهاً على أقاويلكم مبيناً لأباطيلكم، فاجأه ظهور الزهوق للباطل، والويل لكم والملك له سبحانه منزهاً عن كل نقص ثابتاً له بالعبادة كل كمال، ويجوز أن يعطف على {نقذف}.


ولما كانوا عند هذا البيان جديرين بأن يبادروا إلى التوحيد فلم يفعلوا، كانوا حقيقين بعد الإعراض عنهم- بالتوبيخ والتهكم والتعنيف فقال تعالى: {أم اتخذوا} أي أعلموا أن كل شيء تحت قهره نافذ فيه أمره فرجعوا عن ضلالهم، أم لم يعلموه، أو عملوا ما ينافيه فاتخذوا {ءالهة}.
ولما كانت معبوداتهم أصناماً أرضية من حجارة ونحوها قال: {من الأرض} أي التي هم مشاهدون لأنها وكل ما فيها طوع مشيئته {هم} أي خاصة {ينشرون} أي يحيون شيئاً مما فيها من الأجسام النامية حتى يستحقوا بذلك صفة الإلهية، وإفادة السياق الحصر تفيد أنه لو وقع الإنشاء لأحد على وجه يجوّز مشاركة غيره له لم يستحق العبادة، وفي هذا الاستفهام تهكم بهم بالإشارة إلى أنهم عبدوا ما هو من أدنى ما في الأرض مع أنه ليس في الأرض ما يستحق أن يعبد، لأن الإنسان أشرف ما فيها، ولا يخفى ما له من الحاجة المبعدة من تلك الرتبة الشماء.
ولما كان الجواب قطعاً: لم يتخذوا آلهة بهذا الوصف، ولا شيء غيره سبحانه يستحق وصف الإلهية، أقام البرهان القطعي على صحة نفي إله غيره ببرهان التمانع، وهو أشد برهان لأهل الكلام فقال: {لو كان فيهما} أي السماوات والأرض، أي في تدبيرهما.
ولما كان الأصل فيما بعد كل من إلا وغير أن يكون من جنس ما قبلهما وإن كان مغايراً له في العين، صح وضع كل منهما موضع الآخر، واختير هنا التعبير بأداة الاستثناء والمعنى للصفة إذ هي تابعة لجميع منكور غير محصور الإفادة إثبات الإلهية له سبحانه مع النفي عما عداه، لأن {لولا} لما فيها من الامتناع- مفيدة للنفي، فالكلام في قوة أن يقال ما فيهما {ءالهة إلا الله} أي مدبرون غير من تفرد بصفات الكمال، ولو كان فيهما آلهة غيره {لفسدتا} لقضاء العادة بالخلاف بين المتكافئين المؤدي إلى ذلك، ولقضاء العقل بإمكان الاختلاف اللازم منه إمكان التمانع اللازم منه إمكان عجز أحدهما اللازم منه أن لا يكون إلهاً لحاجته، وإذا انتفى الجمع، انتفى الاثنان من باب الأولى، لأن الجمع كلما زاد حارب بعضهم بعضاً فقل الفساد كما نشاهد.
ولما أفاد هذا الدليل أنه لا يجوز أن يكون المدبر لها إلا واحداً، وأن ذلك الواحد لا يكون إلا الله قال: {فسبحان الله} أي فتسبب عن ذلك تنزه المتصف بصفات الكمال {رب العرش} أي الذي هو نهاية المعلومات من الأجسام، ورب ما دونه من السماوات والأراضي وما فيهما المتفرد بالتدبير، كما يتفرد الملك الجالس على السرير {عما يصفون} مما يوهم نقصاً ما، ثم علل ذلك بقوله: {لا يسأل} أي من سائل ما {عما يفعل} أي لا يعترض عليه لأنه لا كفوء له في علم ولا حكمة ولا قدرة ولا عظمة ولا غير ذلك، فليس في شيء من أفعاله لإتقانها موضع سؤال، فمهما أراد كان ومهما قال فالحسن الجميل، فلو شاء لعذب أهل سماواته وأهل أرضه، وكان ذلك منه عدلاً حسناً، وهذا مما يتمادح به أولو الهمم العوال، كما قال عامر الخصفي في هاشم بن حرملة بن الأشعر:
أحيا أباه هاشم بن حرملة *** يوم الهباءات ويوم اليعمله
ترى الملوك عنده مغربلة *** يقتل ذا الذنب ومن لا ذنب له
قال ابن هشام في مقدمة السيرة قبل أمر البسل بقليل: أنشدني أبو عبيدة هذه الأبيات وحدثني أن هاشم قال لعامر: قل فيّ بيتاً جيداً أثبك عليه، فقال عامر البيت الأول فلم يعجب هاشماً، ثم قال البيت الثاني فلم يعجبه، ثم قال الثالث فلم يعجبه، فلما قال الرابع:
ويقتل ذا الذنب ومن لا ذنب له ***
أعجبه فأثابه عليه، ومن أعجب ما رأيت في حكم الأقدمين أن الشهر ستاني قال في الملل: وقد سأل بعض الدهرية أرسطاطاليس فقال: إذا كان لم يزل ولا شيء غيره ثم أحدث العالم فلم أحدثه؟ فقال: لِمَ غير جائز عليه، لأن لم تقتضي علة والعلة محمولة فيما هي علة له من معلّ فوقه ولا علة فوقه، وليس بمركب فتحمل ذاته العلل، فلم عنه منفية. {وهم يسألون} من كل سائل لما في أفعالهم من الاختلال بل يمنعون عن أكثر ما يريدون.
ولما قام الدليل، ووضح السبيل، واضمحل كل قال وقيل، فانمحقت الأباطيل، قال منبهاً لهم على ذلك: {أم} أي أرجعوا عن ضلالهم لما بان لهم غيهم فيه فوحدوا الله أم {اتخذوا} ونبه على أن كل شيء دونه وأثبت أن آلهتهم بعض من ذلك بإثبات الجار فقال منبهاً لهم مكرراً لما مضى على وجه أعم، طالباً البرهان تلويحاً إلى التهديد: {من دونه ءالهة} من السماء أو الأرض وغيرهما.
ولما كان جوابهم: اتخذنا، ولا يرجع أمره بجوابهم فقال: {قل هاتوا برهانكم} على ما ادعيتموه من عقل أو نقل كما أثبت أنا ببرهان النقل المؤد بالعقل.
ولما كان الكريم سبحانه لا يؤاخذ بمخالفة العقل ما لم ينضم إليه دليل النقل، أتبعه قوله مشيراً إلى ما بعث الله به الرسل من الكتب: {هذا ذكر} أي موعظة وشرف {من معي} ممن آمن بي وقد ثبت أنه كلام الله بعجزكم عن معارضته فانظروا هل تجدون فيه شيئاً يؤيد أمركم {وذكر} أي وهذا ذكر {من قبلي} فاسألوا أهل الكتابين هل في الكتاب منهما برهان لكم.
ولما كانوا لا يجدون شبهة لذلك فضلاً عن حجة اقتضى الحال الإعراض عنهم غضباً، فكان كأنه قيل: لا يجدون لشيء من ذلك برهاناً {بل أكثرهم} أي هؤلاء المدعوين {لا يعلمون الحق} بل هم جهلة والجهل أصل الشر والفساد، فهم يكفرون تقليداًُ {فهم} أي فتسبب عن جهلهم ما افتتحنا به السورة من أنهم {معرضون} عن ذكرك وذكر من قبلك غفلة منهم عما يراد بهم وفعلاً باللعب فعلَ القاصر عن درجة العقل، وبعضهم معاند مع علمه الحق، وبعضهم يعلم فيفهم- كما أفهمه التقييد بالأكثر.
ولما كان التقدير بياناً لما في الذكرين: ولو أقبلوا على الذكر لعلموا أنا أوحينا إليك في هذا الذكر أنه لا إله ألا أنا، ما أرسلناك إلا لنوحي إليك ذلك، عطف عليه قوله: {وما أرسلنا} أي بعظمتنا.
ولما كان الإرسال بالفعل غير مستغرق للزمان المتقدم لأنه كما أن الرسالة لا يقوم بها كل أحد، فكذلك الإرسال لا يصلح له كل زمن، أثبت الجار فقال: {من قبلك} وأعرق في النفي فقال: {من رسول} في شيع الأولين {إلا نوحي إليه} من عندنا {أنه لا إله إلا أنا} ولم يقل: نحن، لئلا يجعلوها وسيلة إلى شبهة، ولذا قال: {فاعبدون} بالإفراد، وترك التصريح بالأمر بالتخصيص بالعبادة لفهمه من المقام والحال، فإنهم كانوا قبل ذلك يعبدونه ولكنهم يشركون تنبيهاً على أن كل عبادة فيها شوب شرك عدم.
ولما دل على نفي مطلق الشريك عقلاً ونقلاً، فانتفى بذلك كل فرد يطلق عليه هذا الاسم، عجب من ادعائهم الشركة المقيدة بالولد، فقال عاطفاً على قوله: {وأسروا النجوى} [طه: 62]: {وقالوا} قيل: الضمير لخزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وقيل: لليهود حيث قالوا: إنه سبحانه صاهر الجن فكانت منهم الملائكة: {اتخذ} أي تكلف كما يتكلف من يكون له ولد {الرحمن} أي الذي كل موجود من فيض نعمته {ولداً}.
ولما كان ذلك أعظم الذنب، نزه نفسه سبحانه عنه بمجمع التنزيه فقال: {سبحانه} أي تنزه عن أن يكون له ولد، فإن ذلك يقتضي المجانسة بينه وبين الولد، ولا يصح مجانسة النعمة للمنعم الحقيقي {بل} الذي جعلوهم له ولداً وهم الملائكة {عباد} من عباده، أنعم الله عليهم بالإيجاد كما أنعم على غيرهم لا أولاد، فإن العبودية تنافي الولدية {مكرمون} بالعصمة من الزلل، ولذلك فسر الإكرام بقوله: {لا يسبقونه} أي لا يسبقون إذنه {بالقول} أي بقولهم، لأنهم لا يقولون شيئاً لم يأذن لهم فيه ويطلقه لهم.
ولما كان الواقف عما لم يؤذن له فيه قد لا يفعل ما أمر به قال: {وهم بأمره} أي خاصة إذا أمرهم {يعملون} لا بغيره لأنهم في غاية المراقبة له فجمعوا في الطاعة بين القول والفعل وذلك غاية الطاعة؛ ثم علل إخباره بذلك بعلمه بما هذا المخبر به مندرج فيه فقال: {يعلم ما بين أيديهم} أي مما لم يعملوه {وما خلقهم} مما عملوه، أو يكون الأول لما عملوه والثاني لما لم يعلموه، لأنك تطلع على ما قدامك ويخفى عليك ما خلفك، أي أن علمه محيط بأحوالهم ماضياً وحالاً ومآلاً، لا يخفى عليه خافية؛ ثم صرح بلازم الجملة الأولى فقال: {ولا يشفعون} أي في الدنيا ولا في الآخرة {إلا لمن ارتضى} فلا تطمعوا في شفاعتهم لكم بغير رضاه، وبلازم الجملة الثانية فقال: {وهم من خشيته} أي لا من غيرها {مشفقون} أي دائماً.


ولما نفى الشريك مطلقاً ثم مقيداً بالولدية، أتبعه التهديد على ادعائه بتعذيب المتبوع الموجب لتعذيب التابع فقال: {ومن يقل منهم} أي من كل من قام الدليل على أنه لا يصلح للإلهية حتى العباد المكرمون الذين وصف كرامتهم وقرب منزلتهم عنده وأثنى عليهم كما رواه البيهقي في الخصائص من الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما: {إني إله} ولما كانت الرتب التي تحت رتبة الإلهية كثيرة، بعّض ليدل على من استغرق بطريق الأولى فقال: {من دونه} أي من دون الله {فذلك} أي اللعين الذي لا يصلح للتقريب أصلاً ما دام على ذلك {نجزيه} أي بعظمتنا {جهنم} لظلمه، فأفهم تعذيب مدعي الشرك تعذيب أتباعه من باب الأولى، وهو على سبيل الفرض والتمثيل في الملائكة من إحاطة علمه بأنه لا يكون، وما ذاك إلا لقصد تفظيع أمر الشرك وتعظيم شأن التوحيد، وفي دلائل النبوة للبيهقي في باب التحدث بالنعمة والخصائص أن هذه الآية مع قوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك} [الفتح: 2] دليل على فضله صلى الله عليه وسلم على أهل السماء.
ولما كان مقتضياً للسؤال عن غير هذا من الظلمة، قيل: {كذلك} أي مثل هذا الجزاء الفظيع جداً {نجزي الظالمين} كلهم ما داموا على ظلمهم.
ولما أنكر سبحانه اتخاذهم آلهة من دونه تارة بقيد كونها أرضية، وتارة بقيد كونها سماوية، وتارة مطلقة، لتعم كلا من القسمين وغيرهما، واستدل على ذلك كله بما لم تبق معه شبهة، فدل تفرده على أنه لا مانع له مما يريد من بعث ولاغيره، وكان علمهم لا يتجاوز ما في السماوات والأرض، قال مستدلاً على ذلك أيضاً مقرراً بما يعلمونه، أو ينبغي أن يسألوا عنه حتى يعلموه لتمكنهم من ذلك {فاسألوا أهل الذكر} جلياً له في أسلوب العظمة: {أولم} أي ألم يعلموا ذلك بما أوضحنا من أدلته ولم يروا، ولكنه أظهر للدلالة على أنهم يغطون أنوار الدلائل عناداً فقال: {ير} أي يعلم علماً هو كالمشاهدة {الذين كفروا} أي ستروا ما يعلمون من قدرة الله فأدى ذلك إلى الاستهانة والتنقص فصار ذنبهم غير مغفور، وسعيهم غير مشكور، وحذف ابن كثير الواو العاطفة على ما قدرته مما هدى إليه السياق أيضاً، لا للاستفهام بما دل عليه ختام الآية التي قبل من البعث والجزاء المقتضي للإنكار على من أنكره، فكان المعنى على قراءته: نجزي كل ظالم بعد البعث، ألم ير المنكرون لذلك قدرتنا عليه بما أبدعنا من الخلائق، وإنما أنكر عليهم عدم الرؤية بسبب أن الأجسام وإن تباينت لا ينفصل بعضها عن بعض إلا بقادر يفصل بينها، فمن البديهي الاستحالة أن يرتفع شيء منها عن الآخر منفصلاً عنه بغير رافع لا سيما إذا كان المرتفع ثابتاً من غير عماد، فكيف وهو عظيم الجسم كبير الجرم؟ وذلك دال على تمام القدرة والاختيار والتنزه عن كل شائبة نقص من مكافئ وغيره، فصح الإنكار عليهم في عدم علم ذلك بسبب أنهم عملوا بخلاف ما يعلمونه {أن السماوات والأرض}.
ولما كان المراد الإخبار عن الجماعتين لا عن الأفراد قال: {كانتا} ولما كان المراد شدة الاتصال والتلاحم، أخبر عن ذلك بمصدر مفرد وضع موضع الاسم فقال: {رتقاً} أي ملتزقتين زبدة واحدة على وجه الماء، والرتق في اللغة: السد، الفتق: الشق {ففتقناهما} أي بعظمتنا أي بأن ميزنا إحداهما عن الأخرى بعد التكوين المتقن وفتقنا السماء بالمطر، والأرض بأنواع النبات بعد أن لم يكن شيء من ذلك، ولا كان مقدوراً على شيء منه لأحد غيرنا؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما وعطاء والضحاك وقتادة: كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففضل الله تعالى بينهما بالهواء. وعن مجاهد وأبي صالح والسدي: كانتا مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرض كانت مرتتقة واحدة ففتقها فجعلها سبع طبقات.
ولما كان خلق الماء سابقاً على خلق السماوات والأرض، قال: {وجعلنا} أي بما اقتضته عظمتنا {من الماء} أي الهامر ثم الدافق {كل شيء حي} مجازاً من النبات وحقيقة من الحيوان، خرج الإمام أحمد وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن كل شيء، فقال: «كل شيء خلق من ماء» ولذلك أجاب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الذي وجده على ماء بدر وسأله: ممن هو؟ بقوله: «نحن من ماء».
ولما كان هذا من تصرفه في هذين الكونين ظاهراً ومنتجاً لأنهما وكل فيهما ومن فيهما بصفة العجز عن أن يكون له تصرف ما، تسبب عنه إنكار عدم إيمانهم فقال: {أفلا يؤمنون} أي بأن شيئاً منهما أو فيهما لا يصلح للإلهية، لا على وجه الشركة ولا على وجه الانفراد، وبأن صانعهما ومبدع النامي من حيوان ونبات منهما بواسطة الماء قادر على البعث للحساب للثواب أو العقاب، بعد أن صار الميت تراباً بماء يسببه لذلك.
ولما كان من القدرة الباهرة ثبات الأرض من غير حركة، وكان الماء أدل دليل على ثباتها، وكانت الأرض أقرب في الذكر من السماء، أتبع ذلك قوله: {وجعلنا} بما لنا من العظمة {في الأرض} جبالاً {رواسي} أي ثوابت، كراهة {أن تميد بهم} وتضطرب فتهلك المياه كل شيء حي فيعود نفعها ضراً وخيرها شراً.
ولما كان المراد من المراسي الشدة والحزونة لتقوى على الثبات والتثبيت، وكان ذلك مقتضياً لإبعادها وحفظها عن الذلة والليونة، بين أنه أخرق فيها العادة ليعلم أنه قادر مختار لكل ما يريد فقال: {وجعلنا} بما لنا من القدرة الباهرة والحكمة البالغة {فيها} أي الجبال مع حزونتها {فجاجاً} أي مسالك واسعة سهلة؛ ثم أبدل منها قوله: {سبلاً} أي مذللة للسلوك، ولولا ذلك لتعسر أو تعذر الوصول إلى بعض البلاد {لعلهم يهتدون} إلى منافعهم في ديارهم وغيرها، وإلى ما فيها من دلائل الوحدانية وغيرها فيعلموا أن وجودها لو كان بالطبيعة كانت على نمط واحد مساوية للأرض متساوية في الوصف، وأن كونها على غير ذلك دال على أن صانعها قادر مختار متفرد بأوصاف الكمال.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7